آ _ الموقف على الجبهة الإسلامية:
كان ( الافضل ) أكبر أبناء ( صلاح الدين الأيوبي) شابا لايزيد عمره على ٢٢ عاما عندما وقع والده مريضا في دمشق وخاف الأفضل أن تتمزق وحدة المسلمين بعد تجمع، وان تتفرق كلمتهم بعد توحد، والعدو لا يزال بإزائهم وسيفه موجه إلى نحورهم، فأسرع إلى أمراء دولة أبيه يجمعهم ويلزمهم بأداء القسم قسم الولاء لأبيه ومن بعده له، ولكن ما أن توفي صلاح الدين ( ٣ آذار _ مارس _ ١١٩٣م) حتى ظهرت صعوبة في المحافظة على وحدة المسلمين _ السياسية _ بسبب المطامع الفردية والمطامع الأنانية فأعلن العزيز عثمان _ وكان عمره لم يتجاوز الحادية والعشرين سنة _ استقلاله بمصر وعدم الاعتراف بسلطة أخيه ( الافضل) و كذلك فعل الظاهر غازي _ الأخ الآخر _ الذي استقل بإقطاعة حلب وكذلك الأمر بالنسبة لبقية أمراء الإقطاعات من أبناء صلاح الدين وأبناء اخوته، علاوة على اولئك الأمراء من بقايا الزنكيين الذين كانوا يحكمون إقليم الجزيرة وكان أخطر مافي هذا الخلاف تحوله إلى صراع مسلح على نحو ما حدث بين حاكم مصر العزيز الذي قام بالزحف إلى دمشق وتهديد أخيه الافضل، مما دفع هذا إلى الاستنجاد بعمه الملك ( العادل) الذي قدم بجيشه من بلاد الجزيرة ( حول الرها) وفوصل إلى دمشق في أيار( مايو) ١١٩٤، وأمكن له إصلاح الخلاف بين الأخويين.
ولكن هذا الصلح لم يستمر طويلا، إذ لم تمض سنة أخرى حتى عاد العزيز لغزو أخيه في الشام، وتدخل العم( العادل) من جديد وأمكن له تسوية الأزمة ولكن ظهر له أن ابن أخيه ( الأفضل) دون مستوى المسؤولية، فعزله عن دمشق في تموز ( يوليو) ١١٩٦ ومضى الافضل إلى ( صلخد) (في حوران) ففرض على نفسه العزلة، والتزم التقوى والورع في مقره الجديد.
وفي تلك الفترة، خرج حاكم مصر العزيز للصيد، وسقط من على فرسه أثناء مطاردته لابن آوى قرب أهرام الجيزة، ولم يلبث أن مات متأثرا بجراحه في ٢٩ تشرين الثاني ( نوفمبر) ١١٩٨, ولما كان ابنه( المنصور) صبيا لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره فقد عمل وزراء العزيز، على استدعاء الأفضل من ( صلخد) لتولي الحكم في مصر وما أن استقر الأفضل في مصر حتى وجه جيشه إلى الشام في محاولة لاستعادة دمشق من عمه ( العادل) الذي أسرع بجيشه إلى دمشق _ بعد أن ترك إبنه ( الكامل) في ( مادرين) الثائرة عليه لإخضاعها _ ووصل العادل إلى دمشق في الوقت المناسب( ٨ حزيران _ يونيو _ ١١٩٩), وعندما وصل الأفضل بجيش مصر إلى دمشق إنضم إليه جيش حلب بقيادة ( الظاهر) وحاصر الأخوان عمهما لفترة ستة أشهر، ونجح العادل في النهاية من تمزيق التحالف القائم بين ولدي أخيه ولم تصل سنة ١٢٠٠ م إلى نهايتها حتى كان موقف العادل قد أصبح قويا بفضل القوات التي انضمت إليه من جيشي مصر وحلب، علاوة على وصول الكامل بجيش كبير لدعم أبيه وقام العادل بمطاردة ابن أخيه الأفضل حتى مصر، وبعد معركة قصيرة قرب ( بلبيس)، انتصر العادل، وعاد الأفضل إلى صلخد، وقام الظاهر بقيادة جيشه من حلب للإفادة من غياب عمه في مصر ولكن العادل ظهر فجأة في دمشق وأمكن له معالجة الموقف بدهاء وكياسة، ورجع الظاهر إلى حلب بعد أن ضم إليه _ بموافقة عمه العادل _ ( سميساط) و( ميافارقين) ولم تصل سنة ١٢٠١ حتى نهايتها، حتي كان العادل قد نجح في إعادة الوحدة للعالم الإسلامي، وعين إبنه الكامل لحكم مصر وأظهر العادل أنه لا يضارع ( صلاح الدين) في احترام الناس له ولكنه يفوقه في الدهاء والنشاط.
وكان العادل يتولى منذ عهد أخيه صلاح الدين التفاوض مع الصليبيين، ووجد أن من مصلحته عقد هدنة مع الفرنج الذين كانوا في وضع من التمزق الذي يحتاج لهدنة يتم خلالها إصلاح ما بين إمارات الفرنج من خلافات تم عقد هدنة جديدة في أول تموز ( يوليو) ١١٩٨م _ ٥٩٥ ه لمدة خمس سنوات وثمانية شهور وحصل الفرنج بموجب هذه المعاهدة على مدينتي جبيل وبيروت مقابل حصول العادل على مدينة يافا وعلى أن يقتسم الطرفان مدينة صيدا وظهرت فائدة هذه المعاهدة بالنسبة للملك العادل عند وفاة العزيز في تشرين الثاني ( نوفمبر) ١١٩٨، حيث أصبح با ستطاعته إعادة توحيد العالم الإسلامي وفرض هيمنته على مصر ولم يكن باستطاعة العادل التحرك بحرية لولا معاهدة الهدنة التي سبق له عقدها ثم عاد إلى تجديدها في أيلول( سبتمبر ) ١٣٠٤م _ ٦٠١ه وفرض الفرنج على الملك العادل شروطا جديدة وهي حصولهم على يافا والرملة مع تسير أمور الحج لمن يقصدون بيت المقدس والناصرة.
كان ( ريتشرد قلب الأسد) قد أعلن قبل مغادرته للديار المقدسة بأن مصر هي النقطة الضعيفة في الإمبراطورية الإسلامية وتبعا لذلك فلا بد من جعل مصر هدفا للصليبيين وخلال هذه الفترة من الهدوء النسبي في المشرق كان الغرب يستعد لإرسال الحملة الصليبية الخامسة للتعويض عن فشل سابقتها ولكن المعاهدة السابقة انقضت في سنة١٢١٠ م ولم يظهر ما يشير إلى اقتراب الحملة الجديدة مما دفع فرنج الشرق على التماس الحصول على معاهدة جديدة امكن الوصول إليها لتبدأ من تموز( يوليو) سنة ١٢١٢ م _ ٦١١ ه ومدتها خمس سنوات وكان الملك الكامل _ ابن الملك العادل ونائبه في حكم مصر _ قد عقد معاهدة تجارية مع البنادقة في سنة ١٢٠٨م _ ٦٠٥ ه ساعدت على تسلل الأوروبيين إلى مصر بحيث كان في مصر منهم عام ١٢١٥ م _ ٦١٤ ه ما لا يقل عن ثلاثة آلاف تاجر اوروبي واطمأن العادل إلى استقرار الأمور، بعد أن بلغ من الكبر ما يجعله يجنح إلى فترة من الهدوء.
ولكن الحملة الصليبية الخامسة لم تلبث أن ظهرت في النهاية يوم ٢٤ آب ( أغسطس ١٢١٨ م _ ٦١٧ ه وهي تشن هجومها على دمياط ولم تمض أكثر من أربع وعشرين ساعة حتى استطاع الصليبيون بعد قتال عنيف أن يتخذوا مواضعهم على اسوار حصن دمياط وان يتدفقوا إلى داخله وظلت الحامية تقاتل بعناد حتى لم يبق على قيد الحياة إلا مائة رجل أرغموا على التسليم ووقع في أيدي الصليبيين ماكان بالحصن من غنيمة ضخمة، وأقام الغزاة جسرا صغيرا نقلوا عليه هذه الغنيمة إلى الشاطىء الغربي ثم قطعوا السلسلة وأزالوا الجسر الذي يعترض القناة الرئيسية فأضحى بوسع سفنهم اجتياز النهر من أجل الوصول إلى أسوار دمياط وكان الملك العادل مريضا بدمشق حينماء جاءه بعد أيام قليلة أنباء سقوط دمياط في أيدي الصليبيين لقد سمع منذ زمن وجيز أن ابنه ( المعظم) استولى على قيسارية ودمرها غير أن صدمة الكارثة التي حلت بدمياط كانت أقوى من أن يتحملها فمات في ١٣ آب ( أغسطس) ١٢١٨ م _ ٦١٧ ه، وقد ناهز الخامسة والسبعين من عمره.
يتبع. . . . . . . . . . .
المرجع : المظفر قطز ومعركة عين جالوت
المؤرخ : بسام العسلي